- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
دولة تتهاوى: تحديد مشاكل العراق الاقتصادية
لا يزال الاقتصاد العراقي يعاني من الفقر والبطالة والافتقار إلى الصناعة المحلية، وقد ينتج عن ذلك اضطرابات شعبية خطيرة.
في محاولة لوصف الوضع في العراق على نحو دقيق وموضوعي اتفق عدد من الأكاديميين والمراقبين والمحللين المنحازين لبلدهم ومصلحته الوطنية العليا، على أن العراق بوضعه الراهن يتمثل لهم في هيئة اقتصاد ريعي متهالك وقطاع صناعي وزراعي شبه منهار أن لم يكن منهارا بالفعل باستثناء محاولات فردية من مزارعين وصناعيين ومستثمرين لا دخل للدولة بسعيهم لتأسيس مشاريع متواضعة. هناك أيضا ارتفاع مقلق في نسب الفقر خصوصا في مناطق وسط وجنوب العراق، يرافقه إنفجار سكاني هائل من دون خطط لتحديد النسل والسيطرة على تناميه.
إلى جانب القضايا الأمنية الكبرى والجمود السياسي - التي تمت مناقشتها في مقال منفصل - يمكن فهم الكثير من هذه الأزمة من خلال منظار اقتصادي. يتفق أهل الاختصاص بأن لا وجود لعجلة اقتصادية في العراق بوضعه الحالي، كون ما يجري الآن مجرد عملية بسيطة لإخراج النفط وبيعه وتخصيص الإيرادات كنفقات تشغيلية، وفي حال عجز الإيرادات النفطية للنفقات التشغيلية كما يحصل سنويا ومنذ عدة أعوام يتم اللجوء الى الاقتراض الداخلي والخارجي، مما دفع الدولة الى التوقف تماما عن إعادة بناء ما دمرته الحروب الماضية وتطوير قطاع الخدمات الأساسية وكذلك الشروع بإطلاق تنمية مستدامة منذ عام ٢٠٠٣ والى يومنا هذا.
يعتمد الاقتصاد العراقي على النفط بشكل رئيسي إذ تبلغ الإيرادات النفطية نسبة ٩٦٪ من الموازنة الاتحادية الفعلية والنفط كما هو معروف يرتبط بسوق عالمية تتقلب فيه الأسعار على نحو دائم ولا يقترب من الاستقرار في غالب الأحيان. وبذلك حول النفط الاقتصاد العراقي الى اقتصاد ريعي، وأصبحت الدولة المشغل الرئيسي للأيدي العاملة بمجموع بلغ نحو ٣،٢٦ مليون موظف، عدا العاملين بالعقود الشهرية والأجور اليومية المؤقتة. ولم تعد عائدات النفط العراقي قادرة في هذه المرحلة على تغطية نفقات تشغيله، وبلغت النفقات التشغيلية للوزارات والمحافظات في الموازنة الاتحادية لسنة ٢٠٢١ على سبيل المثال أكثر من ٨٨ تريليون دينار مقابل إيرادات نفط تبلغ ٨١ تريليون دينار.
كان من المؤمل أن يصبح مشروع الورقة البيضاء الذي قدمته حكومة مصطفى الكاظمي -التي أقرت ببعض الإصلاحات الضرورية اللازمة لإعادة ضبط الاقتصاد العراقي- نقطة انطلاق لتصحيح المسار الاقتصادي والبدء بالإصلاحات الضرورية في هذا المجال، لكن الورقة وجدت طريقها الى رفوف النسيان أو التناسي كون الانتخابات باتت على الأبواب والقوى السياسية تجد مصلحتها في معارضة أية إصلاحات لا تأتي إلا من خلالها دون غيرها، وبذلك يفقد العراق فرصة الشروع في الإصلاح.
وخارج القطاع العام، استمر الاقتصاد الخاص في العراق في التآكل. كان العراق في الماضي القريب وعلى امتداد خارطته الزراعية يعد سلة غذاء المنطقة، لكنه وبعد سلسلة الحروب تراجعت خارطته بشكل ملحوظ وبدء القطاع الزراعي يتراجع شيئا فشيئا ومع تكرار انحسار كميات المياه المتدفقة من دول الجوار عبر نهري دجلة والفرات، الى جانب فقدان سيطرة الدولة على الأراضي الزراعية وشيوع ظاهرة تجريف البساتين وتحويلها الى مناطق سكنية وتجارية في عموم المحافظات وهجرة الفلاحين الى المدن بهدف الحصول على وظائف مدنية وعسكرية لوحظت بوادر انهيار القطاع الزراعي.
الصناعة هي الأخرى لم تكن بأحسن من الزراعة، حيث انهار القطاع الصناعي وخصوصا الصناعات الخفيفة متأثرا هو الآخر قبل ٢٠٠٣ بفعل تأثير الحروب والحصار الذي أمتد لنحو ١٣ عاما، ومن ثم فقدان السيطرة على الحدود خلال السنوات التي أعقبت سقوط النظام السابق وتدفق مختلف السلع والبضائع تحت ما سمي في حينه فوضى الاستيراد والتي استمرت حتى يومنا هذا برغم تحديد ومسك المنافذ الحدودية البرية والبحرية منها من قبل أجهزة الدولة وقواتها الأمنية والعسكرية، حيث تفتقر عمليات الاستيراد الى المعايير الاقتصادية والمالية المعمول بها عالميا، والتي قضت على آخر ما تبقى من مصانع لم تعد قادرة على منافسة المستورد سواء من دول الجوار أو العالم، وبالتالي أغلقت أبوابها وسرحت آلاف الأيدي العاملة لتنضم الى جيش العاطلين.
وبالمثل أصبح التمويل في وضع كئيب مماثل، حيث تحول القطاع المصرفي الحكومي الى مجرد دكاكين لتوزيع الرواتب أو إيداع الأجور والرسوم فيما توجهت المصارف الأهلية الى التسابق على ما يوفره مزاد العملة في البنك المركزي العراقي سيء الصيت من أرباح فاحشة من دون فائدة ترجى منه لصالح اقتصاد البلاد. مما عطل طاقات وجهود المستثمرين ورجال الأعمال في تدوير عجلة البناء والاستثمار لإنهم وجدوا في الأرباح المتحققة من مزاد العملة ما يغنيهم عن الخوض في مصاعب وتعقيدات مشاريعهم والمخاطرة برؤوس أموالهم. بل وصل الأمر الى فقدان ثقة المودعين بتلك المصارف لعدم وجود قوانين تحمي إيداعاتهم النقدية مما افقد القطاع المالي لما يقارب الخمسين تريليون دينار من الكتلة النقدية المتداولة المجمدة اليوم لإنها باتت حبيسة بيوت المودعين افضل بكثير من أي مخاطرة برأس المال.
الاعتماد الكلي على النفط
مازال العراق يعتمد النموذج الأسواء في استخدام النفط كمورد للدخل الوطني على عكس معظم الدول النفطية المتقدمة. فالعراق يستخرج النفط ويبيعه في الأسواق العالمية ويصرف الإيرادات على النفقات التشغيلية، وغالبا ما يتأثر الدخل المتحقق بهبوط وارتفاع أسعار النفط، برغم إنها في الغالب تتجه نحو الهبوط جراء توجه دول العالم المتقدمة والمستهلكة للنفط الى الطاقة المتجددة.
مجموعة وود مكينزي أعلنت في تقرير بأن الطلب على النفط سيبدأ بالانخفاض الحاد اعتبارا من عام ٢٠٢٣ متوقعة بأن سعر برميل النفط لن يتجاوز الـ ٤٠ دولار ابتداء من عام ٢٠٣٠ لتصل الى ١٠ دولار في ٢٠٥٠. وحتى إن لم تصبح هذه التوقعات السيئة واقعا ملموسا، فمن المؤكد أن أسعار النفط ستنخفض. وبالفعل بدأت كبريات مصانع السيارات بالتوجه نحو السيارات العاملة بالطاقة الكهربائية، بل أن مجموعة منها أعلنت توقفها عن إنتاج السيارات التقليدية بدء من عام ٢٠٣٠. وأن حجم استهلاك سوق البطاريات في العالم بلغ ٦٩ مليار دولار ومن المتوقع أن يصل الى ١٢٤ مليار دولار في ٢٠٢٤.
كل هذه المؤشرات تعطي تحذيرا مقلقا للدول المصدرة للنفط والعراق في مقدمتها، مفاده أن مبيعات النفط ستبدأ بالتقلص خلال السنوات القليلة القادمة وبالتالي تراجع أسعاره بشكل تدريجي، وإذا ما استمرت سياسات الحكومات العراقية في تجاهل هذا التحذير ومؤشراته القائمة فإنها أمام خيار لا بديل عنه والمتمثل بإعلان الإفلاس في القريب القادم مالم تذهب نحو تنويع مصادر الدخل واستثمار النفط كمادة أولية للصناعات المحلية بهدف تنميتها والاستفادة منها في كبح جماح فوضى الاستيراد العشوائي.
الانفجار السكاني والبطالة والفقر
ومع ذلك، ما زال العراق يعانى من أزمة بطالة ، حيث قال وزير التخطيط خالد البتال في ٢٢ نيسان ٢٠٢١ أن "العراق يشهد زيادات سكانية كبيرة، لا تتناسب مع حجم الموارد، لاسيما مع اتساع رقعة شريحة الشباب بين شرائح السكان" ويقترب تعداد السكان من ٤٠ مليون نسمة بمعدل زيادة مليون نسمة سنويا، مما يعني أن احتياجات الدولة لبناء المدارس والمستشفيات وإيجاد فرص العمل للشباب تتزايد كل عام في الوقت الذي لم يتم فيه تخصيص أي موارد تذكر في الموازنات الاتحادية لمواكبة هذا الانفجار السكاني.
نسبة الفقر في العراق بلغت نحو ٢٧٪ بحسب إحصائيات وزارة التخطيط وبنسبة ٣١٪ بحسب تقرير برنامج الغذاء العالمي ، وصرح وزير العمل والشؤون الاجتماعية الأسبق محمد شياع السوداني بانه هناك اكثر من مليون و٤٠٠ الف عائلة تتلقى معونات الضمان الاجتماعي يضاف اليهم اكثر من مليون مواطن تقدم لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية لشموله بالضمان الاجتماعي، مما يعني أن نسبة كبيرة من المجتمع العراقي تعيش تحت خط الفقر، وهذه النسب في تزايد مستمر.
البطالة في العراق هي الأخرى في تزايد مستمر وبحسب إحصائيات برنامج الغذاء العالمي فإنها تجاوزت نسبة ٤٠٪، خصوصا بين الشباب. ويتخرج سنويا اكثر من ١٨٠ الف طالب من الجامعات والمعاهد الأهلية والحكومية من دون توفر فرص للعمل في الدولة أو في القطاع الخاص إلا ما ندر. نسب كبيرة من السكان تعيش تحت خط الفقر وجيوش العاطلين عن العمل من الشباب لا ترى في الأفق ما يلوح لمستقبل يذكر.
والان، باتت الضغوط الاقتصادية اليوم تشكل قنبلة موقوتة لا أحد يمكنه التحكم بآثارها وتداعياتها في حال انفجارها، وقد رأينا بوادرها في تظاهرات تشرين وما تلتها من تظاهرات للخريجين المطالبين بالتعيين أمام مقار مختلف الوزارات، وها هي مطالب الشباب بالثورة ومقاطعة الانتخابات تتجدد والدعوة الى تغيير النظام السياسي القائم. وليس من المستبعد أن تعود التظاهرات بقوة لتهدد النظام السياسي وإزاحة الطبقة السياسية الحاكمة. علاوة على ذلك، فإن إخفاقات الحكومة - التي تم تناولها في مقال منفصل – توضح كيف أدى الفساد وانتشار الأسلحة إلى المزيد من زعزعة الاستقرار في العراق.